خبر
أخبار ملهلبة

مصير صرصار | توفيق الحكيم | الفصل الأول: الصرصار ملكاً (5)


مجموعة من الصراصير

الفصل الأوّل (5)

 

 

العالم: فعلاً .. نحن لا نسمع لها صوتاً، لأنها مخلوقاتٌ ضئيلة .. ولكن مَن يدري؟ .. ربما كانت لها أصواتٌ مدويّة ..

الملك: وربما كانت لها لغة ..

العالم: وربما كانت تغنى ..

الملك: طبعاً .. بالنسبة إليها هـذا أنسب ظرفٍ لفرحهـا وغنائها! ..

الملكة: أرجوكم .. أرجوكم! .. لا تثيروا أشجان والدٍ حزين بمثل هذا الكلام! .. إما أن نفعل شيئاً من أجلـه أو نسكت ..

الملك: معذرة يا وزيري .. هذا مجرّد كلامٌ عامٌ في أحوال النمل .. ولكن كما تقول الملكة لا بُد من فعل شيء .. و هذا هو ما يشغلنا كما تعلم منذ اجتماعنا اليوم ..

الملكة: هذا الاجتماع الذي لم يسفر عن شيءٍ مفيد حتى الآن ..

الملك: يا عزيزتي .. يا عزيزتي! .. يا صاحبة الجلالة! .. نحن لم نزَل في مرحلة التباحُث وتبادل وجهات النظر ..

الملكة: أي تباحُثٍ وأي وجهات نظر؟ .. ها هو ذا النمل أمامكم! .. يحمل ابن الوزير طعاماً شهيّاً هنيّاً .. هل من الصعب عليكم وأنتم أربعة ذكورٍ أشدّاء أن تهجموا عليه وتسحقوه، وتُنقِذوا من بين أيْديه ابن الوزير؟! ..

الملك: نحن أربعة؟ .. أين هو الرابع؟ ..

الملكة: أنت طبعاً ..

الملك: آه .. حقّاً .. أخرجوني أنا من الموضوع! .. لأني أنا الملك .. والملك يحكم ولا يقاتِل ..

الكاهن: وأنا أيضاً أخرجوني من الموضوع .. لأني أنا الكاهن .. والكاهن يصلّي ولا يحارب ..

العالم: وأنا بطبيعة الحال كذلك .. لا بد أن تُخرجوني من الموضوع .. لأنى أنا العالِم .. والعالِم يبحث ولا يشاغب ..

الملكة: إذن أذهب أنا .. أنا الملكة ولن أقول إني الملكة .. بل أنا مجرّد أنثى ... قِفوا أيّها الذكـور مكتـوفي الأيـْدى وتفرّجوا .. ولتذهب الأنثى إلى الجهاد! ..

الملك: والوزير! .. أليس ذكراً مثلنا؟ .. ما باله ساكتاً والأمر يخصّه ..

الوزير: لا أريد أن أضعكم في هذه المآزق من أجل ابني ..

الملكة: المسألة كما قلنا لم تعد مسألة ابنك ..

الوزير: إني شاكرٌ يا مولاتي .. لكن ..

الملكة: المسألة أكبر من أن تكون مسألةً شخصيّة .. وهم جميعاً يعرفون ذلك .. هؤلاء الأفاضل أكابــر المملكة! .. ولكنهم لا يريدون .. ويتجاهلون .. لأنهم ضعاف الهِمّة .. تنقصهم الإرادة والعزيمة ..

الملك: يا عزيزتي صاحبة الجلالة ..

الملكة: اسكت أيها الضعيف المتخاذل؟ .. اترك لى أنا زمام الأمر ..

الملك: تريدين أن أتنازل لكِ عن العرش؟ ..

الملكة: لا يا سيّدي .. عرشك هذا لا يهمّني .. ولا يغريني .. إنما أريد فقط أن تتركني أعمل ..

الملك: لا تتهوّري يا عزيزتي .. إنك لن تعملي شيئاً .. إنكِ تريدين أن تهاجمي وتحاربي وتقاتلي مثل النمل .. وهذا ما لا يمكن أن يحدث ..

الملكة: ولِـمَ لا؟ ..

الملك: اسألي العالِم الفاضِل! .. عنده الجواب ..

الملكة: تكلّم أيها العالِم الفاضِل! ..

الملك: تكلّم وأخبرها لماذا يعرف النمل طُرُق الحرب ونحن لا؟! .. قل واشرح لها! ..

العالم: أولاً .. عند النمل وزير حربيّة ..

الملكة: وزير حربيّة؟! ..

العالم: طبعاً .. وزيرٌ متخصّصٌ في شئون تنظيم الجيوش .. وهل يُعقَل أن تسير كل هذه الجماعات الضخمة بهذا الترتيب والنظام في صفوفٍ متراصّة بدون أن يكون وراءها مسئولٌ متخصّصٌ في تنظيمها؟! ..

الملكة: المسألة بسيطة .. لماذا لا يكون عندنا نحن أيضاً وزير حربيّةٍ متخصّص؟ ..

العالم: هذا موضوعٌ سياسي .. وأنا لا أفهم في السياسة .. اسألي جلالة الملك في ذلك! ..

الملكة: تفضّل أجب يا جلالة الملك! ..

الملك: ما هو السؤال؟ ..

الملكة: لماذا لم تُعيِّن وزير حربيّةٍ متخصِّص؟ ..

الملك: وزير حربيّة متخصِّص؟! .. وهل هذا في يدي؟ .. أيْن هو؟ .. أيْن أجده وأنا أُعيّنه في الحال؟ .. لقد تعبنا حتى عثرنا على وزيرٍ واحدٍ هو صاحبنا هذا .. تفضَّل وقَبِلَ أن يكون وزيراً عموميّاً، يقوم بكل شيء، ولا يفهم في شيء ..

الوزير: إذا لم أكن محل ثقةٍ فأنا مستعدٌ لتقديم استقالتي ..

الملك: استقالتك؟! .. سمعتم؟! .. ها هو ذا أيضاً الوزير الوحيد يهدّد بالاستقالة! ..

الملكة: لا أيها الوزير المحترم .. أنت محل ثقة الجميـع .. ولا تستمع إلى كلام الملك .. فهو أحياناً يهرف بألفاظٍ نابية ..

الوزير: شكراً لمولاتي الملكة! ..

الملك: الملكة المهذَّبة! ..

الملكة: إذن أيها العالِم الجليل كل الفَرق هو أن عند النمل وزير حربيّةٍ متخصِّص؟ ..

العالم: ليس هذا فقط كل ما عندهم ..

الملكة: ماذا عندهم أيضاً؟ ..

العالم: وزير تموينٍ بارع ..

الملكة: وزير تموين؟! ..

العالم: بارع .. لأن عمليّة تخزين الطعام في مخازن - على هذا المستوى الضخم - لا يمكن إلّا أن يكون وراءها تخطيطٌ اقتصاديٌ مدهش ..

الملك : نحن لسنا في حاجةٍ إلى تموين، ولا إلى وزير تموين .. لأنه لا توجد عندنا أزمة طعام .. ولا حاجة لدينا إلى تخطيطٍ وتخزين ..

العالم: فعلاً إن اقتصاديّاتنا تسير بالبركة .. وهـذا مـن مفاخرنا! ..

الملكة: من مفاخرنا؟! ..

الملك: طبعاً يا عزيزتي .. طبعاً! .. إن لدينا مفاخر لا يُستهان بها ..

العالم: تأكيداً لرأي جلالتك أقول إن عندنا ميزةً ليست عند النمل .. هي تحديد النسل! .. إن النمل يترك أعداده تتزايد تزايداً هائلاً يدفعها إلى أزمة الطعام، وتخزين الطعام والحاجة إلى الطعام تؤدي إلى الحرب ..

الملك: فعلاً .. نحن لسنا في حاجةٍ إلى طعام، ولا إلى تخزين طعام، ولا إلى حرب ..

العالم: ولذلك نحن مخلوقاتٌ راقية ..

الملك: بدون شك .. نحن لم نهاجم مخلوقاً حيّاً .. و لم نؤذِ أحداً .. و لم نعرف الجشع .. ولا التكالُب على تخزين الملك شيء ..

الملكة: ألا توجد مخلوقاتٌ أرقى مِنّا؟ ..

العالم: لا .. نحن أرقى المخلوقات على الأرض ..

الملكة: هذا صحيح .. ومع ذلك نحن نقاسي كثيراً من تلك المخلوقات الأخرى المنحطّة ..

العالم: الانحطاط دائماً سبب المتاعب .. ولكن علينا بالصبر .. ليس في استطاعتنا أن نجعل المخلوقات الأدنى مثلنا في التمدُّن .. كلٌ له طبيعته وبيئته وظروفه .. إن النمل مثلاً كل ما يهمّه هو الطعام، أما نحن فيهمّنا فوق ذلك المعرفة ..

الملكة: المعرفة؟! ..

العالم: بالطبع .. إن هذه الشوارب الطويلة التي لنـا لا نستخدمها فقط في لمس الطعام .. بل أحياناً كثيرةً نلمس بها أشياءً لا تؤكل .. لمجرد تحسُّس طبيعتها واكتشاف حقيقتها .. ألم يحدث لكِ ذلك مراراً یا صاحبة الجلالة؟ ..

الملكة: فعلاً .. فعلاً .. يهمّني كثيراً أن ألمس بشواربي المواد الغريبة، لا لرغبتي في الأكل .. بـل لمجرّد حب الاستطلاع ..

العالم: نعم .. حب الاستطلاع .. حب المعرفة .. إرادة المعرفة ..

الملك: وتقولين يا عزيزتي الملكة إننا ضعاف الإرادة؟! .. نحن أصلب مخلوقات الأرض عوداً .. أليس كذلك أيها العالِم الجليل؟ ..

العالم: بالتأكيد يا مولاي ..

الملك: هل النمل أقوى مِنّا؟ .. مستحيل! .. إنه لا يعرفنا .. إنه يعرف فقط كيف يأكلنا .. ولكنه لا يعرف مَن نحن .. مَن نكون؟.. هل النمل يعرفنا؟ ..

العالم: لا طبعاً ..

الملك: هل عنده أدنى فكرة عن حقيقتنا .. عن طبيعتنا ؟ .. هل يدرك أننا مخلوقاتٌ مفكِّرة؟ ..

العالم: كل معلوماته عنّا هي أننا طعامٌ له ..

الملك: ولهذا هو بالنسبة إلينا مخلوقٌ دنيء ..

الملكة: هذا لا يمنع من أنه يأكلنا .. ويجب أن نجد طريقةً ندرأ بها ضرره ..

الملك: الطريقة الوحيدة هي أن لا تستلقي على ظهرِك! ..

الملكة: هذا عندك إذن هو كل الحل! ..

الملك: عندنا جميعاً ..

الملكة: بالاختصار انتهيْنا من حيث بدأنا .. أي إلى صفر .. صفر .. صفر! .. واجتماعنا ومناقشاتنا وأبحاثنا كلها صفرٌ في صفرٍ في صفر ..

العالم: لا يوجد صفرٌ في الأبحاث .. كل بحثٍ مفيـد وشواربنا عندما تلمس الأشياء تعود بفائدة، حتى إنْ لم تدرك تماما حقيقة هذه الأشياء .. وبالمناسبة كنت قد قلت من لحظاتٍ أني عائدٌ من اكتشافٍ مهمٍ جداً .. و لم أجد منكم أُذُناً صاغية ..

الملك: آه .. نعم .. خُيِّل إليَّ أني سمعت منك هذا الخبر .. ما هو هذا الاكتشاف؟ .. تكلّم .. أُذُني صاغية ..

العالم: هذه البحيْرة ..

الملك: أي بحيْرة؟ .. آه .. نعم .. حقّاً .. كنت تحدّثنا عن بحيْرة، وأردت أن تأخذنا أنا والملكة لنشاهدها ..

العالم: وكنا بالفعل على وشك الذهاب .. لوْلا مجيء الكاهن ..

الملك: نعم .. نعم حقّاً .. إذن هَلُمَّ بنا .. إذهب بنا الآن .. إن هذا على الأقل شيءٌ أفيَد من الكلام في موضوعاتٍ خرافيّة ومشروعاتٍ وهميّة! .. تفضلي يا عزيزتي صاحبة الجلالة! ..

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent