خبر
أخبار ملهلبة

مصير صرصار | توفيق الحكيم | الفصل الأول: الصرصار ملكاً (4)

 

صرصار كبير ميت تحمله حشرات النمل إلى بيتها لتأكله

الفصل الأوّل (4)

 

 

الوزير: شكراً .. ولكن .. ليس هذا هو كل ما ننتظره منك ..

الملك: هذا صحيح .. نحن نريد منك شيئاً أكثر فائدةً من مجرّد تعزية الوزير ..

الوزير: نريد علاجاً حاسماً ..

العالم: أعطونى مهلةً للبحث .. كل شيءٍ عندي يجب أن يقوم على أساس .. الخطوة تتلوها الخطوة .. يجب أن نبدأ أولاً بمعرفة أنفسنا .. واكتشاف ما حولنا في هذا الكون الواسع .. أتعرفون مثلاً ما الذي يوجد خلف هذا الحائط المصقول الذي نقف تحته؟ ..

(ويشير العالِم إلى جدار حوض البانيو الخارجي ... )

الملك: ماذا يوجد خلفه؟ ..

العالم: لقد صعدت إلى أعلاه مِراراً ورأيت العجب ..

الجميع: ماذا رأيت؟ ..

العالم: رأيت هوةً سحيقة .. أغلب الظن أنها بحيْرةٌ كبيرة .. لكن الغريب أنها أحياناً تخلو من الماء، وأحياناً تمتلىء بالماء! ..

الجميع: وكيف يحدث هذا؟ ..

العالم: لا أدري بعد .. ولكني بعد رصد هذه الظاهرة، استطعت أن ألاحظ شيئاً ثابتاً .. وهو أن هذه البحيْرة تمتلىء بالماء في وهج الضوء، وتخلو من الماء في الظلام ..

الملك: وما هي العلاقة بين الضوء والماء؟ ..

العالم: هناك علاقةٌ ما لا ندري سببها بعد .. ولكننا على كل حال أمكننا استخلاص قانونٍ ثابتٍ في معادلةٍ علميّةٍ صحيحة في أن الضوء يساوي الماء والظلام يساوي الجفاف

الملك: إذن في هذه اللحظة .....

العالم: في هذه اللحظة البحيْرة جافة ومنظرها جميلٌ جداً وجدرانها ملساء بيضاء بياضاً ناصعاً .. كـأنها مفروشةٌ بأزهار الياسمين ..

الملكة: بوِدّي أن أشاهدها ..

العالم: بكل سرور .. إن أذِنَتْ موْلاتي فإني أقودِك إلى قِمّة الحائط .. وعندئذ تشرفين على الهوة العميقة ومنظرها الرائع ..

الملك: وأنا أيضاً أريد مشاهدة ذلك ..

العالم: أنا طَوْع أمركم .. هلمّوا بنا جميعاً ..

الوزير: انتظروا .. الكاهن قادم ..

(الكاهن يظهر ...)

الملك: تعالَ وانضم إلينا أيها الكاهن المبجّل! ..

الكاهن: هذا ما أريد .. فقد مررت الساعة بمنظرٍ محزِن ..

الملك: منظرٌ محزِن؟ ..

الكاهن: نعـم .. موْكبٌ من النمل يحمـل صرصاراً .. والصرصار فيما يبدو ميّتٌ لا حراك به .. ونملةٌ في المقدِّمة تسحبه من شاربه .. بينما في المؤخرة جماعةٌ منها تدفعه .. فما وسعني إلا أن ترحمت عليه ..

الملكة: ألا تعرف من هذا؟ ..

الكاهن: لا ..

الملكة: هذا ابن الوزير ..

الكاهن (ملتفتاً إلى الوزير): ابنك؟ ..

الوزير (مطرقاً حزيناً): نعم ..

الكاهن: فلتمنحك الآلهة الصبر! .. سأصلّي من أجلك ..

الوزير: شكراً! ..

الملك: كنا الآن نتناقش فيما ينبغي أن نفعل إزاء هـذه الكوارث .. فقد آن الأوان أن نبحث عن علاج .. هل عندك اقتراح أيها الكاهن؟ ..

الكاهن: ليس عندي غير شيءٍ واحد ..

الملك: إيّاك أن تقول القرابين! ..

الكاهن: لا يوجد غيره ..

الوزير: أرأيت يا موْلاي؟ .. ها نحن قد دخلنا في إشكالٍ آخر .. البحث عن القرابين .. وقد نعثر عليها وقد لا نعثر .. ثم مَن الذي يبحث عنها ويأتي بها؟ .. أنا شخصياً غير مستعد .. حالتي النفسيّة لا تسمح ..

العالم: وأنا أيضاً غير مستعد .. لأني أنا طبعاً غير مؤمنٍ بهذه الوسائل! ..

الكاهن: الإلحاد كثيرٌ في هذه المملكة! ..

الملكة: لا تقل ذلك أيها الكاهن! .. أنت تعلم جيّداً أني مؤمنةٌ أشد الإيمان ..

الملك: نعم .. نحن مؤمنون .. ولكن مسألة القرابين هذه أصبحت متعبة .. و.. قديمة بعض الشيء، وقد سبق أن قدّمنا لك مرّة بعض القرابين التي طلبتها و لم يظهر لها أيّة نتيجة ..

الكاهن: النتيجة ليست في يدى .. أنا أُقدِّم القرابين .. والآلهة حرّةٌ تقبلها أو ترفضها ..

العالم: آلهتك ترفض دائماً هذه القرابين، ولا يقبلها غير النمل ..

الوزير: حقّاً .. لاحظنا أن قطعة السُكّر التي كنت طلبتها قرباناً .. النمل هو الذي أكلها ..

الملك: اسمع أيها الكاهن؛ اطلب من الآلهة أن تساعدنا بدون أن تكلّفنا شيئاً

الكاهن: تريدون منها أن تخدمكم بالمجان؟! ..

الوزير: ولِـمَ لا .. أليس ملكنا يقوم بمهام وظيفته بالمجان؟! ..

الملكة: وأنا نفسي .. الملكة .. ما مِن أحدٍ أعطاني شيئاً .. حتى ولا زوْجي العزيز .. أنا أسعى لرزقي مثله .. سواءٌ بسواء ..

العالم: ولا أنا طبعاً .. ما مِن أحدٍ قرّر لي مُرَتَّباً أو أجراً ..

الوزير: ولا أنا كذلك .. أنا وزير المملكة .. كل أعمال منصبي بدون أجر ..

الملك: لماذا إذن تطالِب أنت لآلهتك بأجور؟! ..

الكاهن: لن أطالب بشيء ..

الملك: بالعكس .. يجب أن تطالبها بأن تساعدنا .. ولكن بشرط أن تكون المساعدة لله في الله! ..

الكاهن: لا أستطيع أن أضع للآلهة شروطاً ..

العالم: وهل هي التي اشترطت عليك الأجر، أو أنت المتبرّع لها بذلك؟ ..

الكاهن: ليس هناك اشتراطٌ ولا تبرُّع .. لكن مَن يطلب من أحدٍ شيئاً عليه أن يعمل على إغرائه ..

العالم: هي إذن مسألة إغراء ..

الكاهن: صِفها كما تشاء .. ولكني أنا لا أستطيع التوسُّل إلى الآلهة وأنا صِفر اليديْن ..

العالم: وهل أنت واثقٌ أن الآلهة تهتم بما في يديْك؟ ..

الكاهن: ما هذا السؤال؟ ..

العالم: هل سبق للآلهة أن استمعت إليك؟ ..

الكاهن: طبعاً ..

العالم: متى كان ذلك؟ ..

الكاهن: ذات مرّة .. كنت في ركنٍ مريضاً .. فرأيت جيوش النمل مقبلة .. وأيقنت بالهلاك .. فدعوْتُ الآلهة بصلاةٍ خرجت من أعماق قلبي .. وعندئذٍ رأيت فجأة شيئاً كأنه سحابةٌ كبيرةٌ داكنة اللوْن مبتلةٌ بماءٍ غزير قد هبطت من السماء وانقضت على جيوش النمل فجرفتها جرفاً ومسحت بها وجه الأرض مسحاً ..

الملكة: ياللعجب! ..

العالم: هذه السحابة تركيبها العلمي معروف .. إنها شبكةٌ من خيوطٍ كثيرة في خِرقةٍ كبيرةٍ مبتلة من الخيْش ..

الملك: لا يهم أصل السحابة، ولا تركيبها العلمي .. المهم مَن الذي أنزلها ومسح بها النمل؟! ..

الكاهن: قُل له أيها الملك .. اسأله .. مَن الذي أنزلها من السماء .. وأباد بها جيوش النمل؟ .. مَن؟ .. من؟ ..

العالم: هذا سؤالٌ لا يجيب عنه العِلم .. ولكن الذي أشك فيه هو وجود أي علاقةٍ بين صلاة هذا الكاهن وبين نزول هذه السحابة ..

الكاهن: وكيف إذن لم تهبط السحابة إلّا بعد صلاتي؟ ..

العالم: محض مصادفة ..

الكاهن: يا للكُفر! .. يا للإلحاد! ..

الملكة: أنا ضد الكفر والإلحاد .. وأنت يا زوْجي الملك يجب أن تكون مثلي في هذا ..

الملك: بالطبع أنا مثلك في هذا .. اسمع أيها الكاهن الجليل .. أنـا مُصدِّقك ويجب أن أصدِّق أن صلاتك كانت مفيدة، وعلى ذلك ما دامت صلاتك قد نفعت ونجحت مرّة، فلا بد أن تنفع وتنجح مرّةً أخرى، ولذلك أرجوك أن تصلّي وأن تداوم على الصلاة ..

الوزير: خصوصاً وأن الصلاة وحدها مجاناً بدون قرابين قد نجحت ..

الملكة: لأنها كما قال كانت صادرةً من أعماق قلبه ..

الكاهن: نعم .. وهو كذلك .. سأُصلّي ..

الملكة (صائحةً): انظروا! .. انظروا! ..

(يظهر موكب النمل يحمل صرصاراً)

النمل (مُنشِداً):

هاكُم الوليمة العظيمة

نحملها جميعاً جميعـاً

إلى قُرانـا ومُدِننـا

صرصارٌ ضخمٌ جليـل

زاد الشتاء الطويـل

نملأ بــــــه المخازن

لن يعرف أحدنا الجوع

لأن كلّنـا سـواعـد

أعضاء جسمٍ واحـد

ليس فينـا حزيــن

وليس فينـا وحيـد

وليس فينا مـن يقـول:

"لا شأن لي بالآخرين"

(يتجه النمل بحمله الثقيل نحو حائط بينما الصراصير ناظرةً إليـه في صمتٍ وذهولٍ ووجوم ...) الملك: يؤسفنا أيها الوزير أن نرى ابنك محمولاً هكذا على الأعناق! ..

الكاهن: الرحمة له! .. الرحمة له! ..

الملك: إنها على كل حال جنازةٌ مهيبة! ..

العالم: إنها تبدو كذلك .. وإن كان المنطق يقضي بأن تكون غير ذلك .. فهي بالنسبة إلى النمل طعام .. أي خيرٌ عميم .. وحَمْل الخيْر والطعام لا بُد أن يكون مصحوباً بمظاهر فرحٍ وهتافٍ وغناء ..

الملك: ولكننا لا نسمع شيئاً .. إنها جماعاتٌ تسير في صمتٍ مطبق ..

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent