خبر
أخبار ملهلبة

المنقبة (الميزة) الثانية: التَدَيُّنُ والتَمَسُّكُ بالأَخْلاق | سخصية مصر


صورة سلويت لظل رجل يدعو الله وفي الخلفية الجبال أثناء الفجر

بوشتيشفاخ

 

 

ظَهَرَتْ نَتيجَةُ امْتِحاناتِ آخِرِ عام 1982- 1983 لليسانْسِ الحُقوقِ مُعْلِنَةً تَخَرُّجِ "نورِ الدينِ" بتَقْديرٍ جَيِّدٍ وانْتِقالِهِ إلى الحَياةِ العَمَليَّةِ بَعْدَ سِتَةِ عَشَرَ عاماً دِراسِيَّاً، ولأَنَّه الابْنُ الوَحيدُ ولَمْ يَكُنْ مَطْلوباً للتَجْنيدِ فَقَدْ شَرَعَ في تَحْقيقِ حُلْمِهِ بالسَفَرِ إلى الخارِجِ حَيْثُ المَدَنيَّةُ الحَديثَةُ والتَقَدُّمُ والحَياةُ المُريحةُ والمالُ أَيْضاً، فاسْتَخْرَجَ أَوْراقَهُ وبَدَأَ في إجْراءَاتِ الحُصولِ عَلَى تَأْشيرَةِ أَيِ دَوْلَةٍ غَرْبيَّة، ولَمْ يَهْتَمْ بتَحْديدِ بَلَدٍ بِعَيْنِهِ فَأَيِ بَلَدٍ غَرْبيٍ سَيَكونُ أَفْضَلَ - حَسَبِ وُجْهَةِ نَظَرِهِ آنَذاك - مِنْ وَطَنِهِ الأُم؛ فكانَ راضياً بأَيَّةِ دَوْلَةٍ تُوافِقُ عَلَى دخُولِهِ أَرَاضيها ولَوْ بِغَرَضِ السياحَةِ في أَوَّلِ الأَمْرِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ بِهِ المُقامُ هُناكَ فَيَتَزَوَّجُ بِنْتاً جَميلَةً شَقْراءَ ذاتَ عُيونٍ زَرْقاءِ طالَما راوَدَتْهُ في أَحْلامِهِ ويَأُخُذُ جِنْسيَّةَ هَذِهِ الدَوْلَةِ - كَما فَعَلَ بَعْضٌ مِنْ جيرانِهِ وأَصْدِقائِه - ويَتَمَتَّعُ بالعَيْشِ الهانِئِ ويُغْدِقُ عَلَى أَبَوَيْهِ بالمالِ الوَفيرِ الذي سَيَغْتَرِفُهُ مِنْ نَهْرِ وَطَنِهِ الجَديدِ الذي يَنْتَمي إلى العالَمِ الأَوَّل، واسْتَهَلَّ غَزْوَتَهُ للغَرْبِ بِزيارَةِ السِفارَةِ الأمْريكيَّةِ التي رَفَضَتْ مَنْحَهُ التَأْشيرَةِ وكَذَلِكَ فَعَلَتْ سِفاراتُ "كَنَدا" و"بريطانيا" و"أَلْمانيا" و"فَرَنْسا" و"إيطاليا"، وقَبْلَ أَنْ يَتَسَرَّبَ اليَأْسُ والإحْباطُ إلى قَلْبِهِ ويَتَمَكّنا مِنْهُ كانَ قَدْ نَجَحَ في الحُصولِ عَلَى تَأْشيرَةِ دُخــولِ "الأَراضي الوَطــيئَةِ" ويُقْصَــدُ بِها "هولَـــــــنْدا"و"بِلْجيكا" و"لوكْسُمْبورج" فَوَدَّعَ والِدَيْهِ وتَوَكَّلَ عَلَى الله.

وعِنْدَما وَصَلَ إلى "أَمِسْتِرْدام" لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ فيها أَحَداً ولَمْ يَكُنْ حَتَّى يَعْرِفَ اللُغَةَ الهولَنْديَّةَ فَظَلَّ يَهيمُ عَلَى وَجْهِهِ ويَتَجَوَّلُ في أَنْحاءِ المَدينَةِ لا يَلْوي عَلَى شَئ، وساقَتْهُ قَدَماهُ إلى مَيْدانٍ كَبيرٍ يُسَمَّى "دام" يَقِعُ أَمامَ القَصْرِ المَلَكي ويَقْطَعُهُ تِرامٌ حَديثٌ جَميلٌ ويَتَوَسَّطُهُ نُصُبٌ تَذْكاريٌ مُبْهِرٌ يَجْلِسُ حَوْلَهُ عَلَى الأَرْضِ أُناسٌ أكْثَرُهُم سُيَّاحٌ وبَعْضُهُم مَحَلِيُّونَ يَعْكِفونَ عَلَى إطْعامِ الحَمامِ في مَشْهَدٍ بَهيج، فَجَلَسَ وَسْطَهُم فَقَدْ أَنَسَ إلى هَذا النُصُبِ الذي يُشْبِهُ المِسَلاّتِ الفِرْعَوْنيَّةِ في وَطَنِه، وبَعْدَ فَتْرَةٍ اسْتَغَلّها "نورُ الدينِ" في الراحَةِ والْتِهامِ بَعْضِ الطِعامِ الذي تَزَوَّدَ بِهِ مِنْ "مِصْرَ" أَطْلَقَ ساقَيْهِ ليَمْشِيَ في الشَوارِعِ والأَزِقَّةِ الجانِبيَّةِ ليَتَعَرَّفَ عَلَى هَذِهِ المَدينَةِ العَظيمَةِ الشامخَةِ التي لَمْ تَصِلْ "القاهِرةُ" لرُبْعِ مَدَنِيَّتِها وتَطَوُّرِها وبَهائِها، ولَكِنَّهُ صُدِمَ لِهَوْلِ ما رَأَى؛ فَقَدْ اكْتَشَفَ أَنَّ شوارِعَ هَذا الحَيِ بالكَامِلِ - وكانَ يُسَمَّى "الحيُ الساخِنُ" أَوْ "حَيُ الأَضْواءِ الحَمْراء"- تَحْوِي بَدَلاً مِنَ المَحَالِ التِجاريَّةِ وَاجِهَاتٍ زُجاجِيَّةٍ تَقِفُ خَلْفَها نِساءٌ عارياتٌ كَما وَلَدَتْهُنَّ أُمُهاتُهُنَّ لِمُمارَسَةِ الفُجورِ بِخِلافِ البَيْعِ العَلَنيِ لِجَميعِ أَنْواعِ المخدِّراتِ والخُمورِ ووَقوفِ المِثْليِّينَ الشَواذِ في الشوارِعِ وَسْطَ الزِحامِ والخَلاعَةِ والمُجونِ والمُوسيقَى الصاخِبَةِ ورائِحَةِ الخمْرِ والعَرَقِ والدُخانِ مِمَّا جَعَلَ "نورُ الدينِ" يَشْعُرُ أَنَّه يَحْلُمُ بكابوسٍ مُريعٍ أَوْ أَنَّه في جَهَنَّمٍ وبِئْسَ المَصير، فَأَسْرَعَ "نورٌ" في الابْتِعادِ عَنِ المَكانِ وهوَ يُبَسْمِلُ ويُحَوْقِلُ ويَتْلو ما حَفِظَ مِنَ القُرْآن؛ حَتَّى اسْتَبَدَّ بِهِ التَعَبُ فجَلَسَ عَلَى أَحَدِ الكَراسي بإحْدَى الحَدائِقِ وقَدْ جَنَّ عَلَيْهِ اللَيْلُ فَلَمْ يَشْعُرْ بِنَفْسِهِ عِنْدَما غَرِقَ في نَوْمٍ عَميقٍ وإذا بِشُرْطيٍ يوقِظُهُ بِغِلْظَةٍ لِيَطَّلِعَ عَلَى أَوْراقِه، ولمّا تَأكّدَ مِنْ سَلامَتِها أَشَارَ لَهُ بالابْتِعادِ وعَدَمِ النَوْمِ في الأَماكِنِ العامَّة، وفَشَلَ "نورُ الدينِ" في إيصالِ سُؤالِهِ لِهَذا الشُرْطي عَنْ مَكانٍ ليَبيتَ فيهِ لَيْلَتِهِ فَسارَ في طَريقِهِ الغامِضِ وهوَ يَكادُ يَبْكي بَعْدَ أَنْ نَهَرَهُ الشُرْطي، وتَذكَّرَ "نورٌ" وَصِيَّةَ والِدِهِ عِنْدَما نَصَحَهُ بالالْتِجاءِ وَقَتَ الضيقِ إلى أَيِ بَيْتٍ مِنْ بيوتِ اللهِ فَأَخْرَجَ مِنْ حَقيبَتِهِ خَريطَةَ "أَمِسْتِرْدام" التي حَصَلَ عَلَيْها عِنْدَ وصولِهِ للمَطارِ واسْتِطاعَ بَعْدَ لأْيٍ أَنْ يَسْتَخْرِجَ رَمْزَ مَسْجِدٍ عَلَى الخَريطَةِ مَوْجوداً في شارِعٍ اسْمِهِ بالهولَنْديَّةِ "Postjesweg"، وأَخَذَ يَسْتَوْقِفُ كُلَّ مَنْ يُقابِلُهُ ويَسْأَلُهُ عَنْ شارِع "بوستجيسويج" فَلَمْ يُرْشِدُهُ أَحَدٌ إلى أَنْ قابَلَهُ شَخْصٌ تُرْكيٌ مُسْلِمٌ صَحَّحَ لَهُ نُطْقَ الكَلِمَةِ وأَخْبَرَهُ أَنَّ اسْمَ الشارِعِ هوَ "بوشتيشفاخ" وصَحِبَهُ إلى هُناكَ وتَرَكَهُ أَوَّلَ الشارِعِ بَعْدَ أَنْ أَشارَ لَهُ بِمَكانِ مَسْجِدِ "فيستر" التابِعِ لجمْعيَّةٍ تُرْكيَّةٍ تُسَمَّى "آيا صوفيا"، وعِنْدَما وَصَلَ هُناكَ تَبَيَّنَ "لِنورٍ" أَنَّ المَسْجِدَ مُغْلَقٌ ولَنْ يُعادَ فَتْحُهُ إلّا قَبْلَ صَلاةِ الفَجْرِ فَافْتَرَشَ الأَرْضَ وارْتَكَنَ إلى الحائِطِ الخارِجيِ للمَسْجِدِ ووَضَعَ حَقيبَتَهُ الصَغيرَةَ تَحْتَ رَأْسِهِ ونامَ في الشارِعِ حَتَّى أَيْقَظَهُ أَحَدُ المُصَلِّينَ قَبْلَ الفَجْرِ فَقامَ ونَفَضَ ما عَلَيْهِ مِنْ قَطَراتِ المَطَرِ فَقَدْ أَمْطَرَتْ السَماءُ فَوْقَهُ ولَمْ يَشْعُرْ مِنْ شِدَّةِ الإرْهاقِ ثُمَّ دَخَلَ الجامِعَ وتَوَضَّأَ وصَلَّى ودَعا اللهَ كَثيراً أَنْ يَعْصِمَهُ مِنَ الوُقوعِ في الزَلاّتِ والخَطايا ويوَفِّقَهُ في العُثورِ عَلَى عَمَلٍ حَلالٍ فيهِ رِزْقٌ وَفير، ثُمَّ بَسَطَ قامَتَهُ ونامَ في المَسْجِدِ خاليَ البالِ مُرْتاحَ الضَمير.

وكانَ اللهُ في عَوْنِ "نورِ الدينِ" بَعْدَ فَتْرَةٍ مِنَ الشَقاءِ والكَبَدِ عانَى فيها كَثيراً مِنَ الهَوانِ وقِلَّةِ الرِزْقِ فَقَدْ تَعَرَّفَ عَلَى أَحَدِ المِصْريِّينَ أَصْحابِ الأَعْمالِ في المَسْجِدِ - الذي كانَ يواظِبُ عَلَى الصَلاةِ فيهِ - فَتَعَهَّدَهُ الرَجُلُ بالرِعايَةِ عِنْدَما لَمِسَ فيهِ صَلاحاً وتَقْوَى فَأَوْكَلَ إليْهِ عَمَلاً هاماً واعْتَمَدَ عَلَيْهِ واسْتَأْمَنَهُ فكانَ "نورٌ" نِعْمَ العَامِلِ والمُؤْتَمَن، وبَعْدَ عَدَّةَ أَعْوامٍ كانَ "نورٌ" قَدْ أَسَّسَ عَمَلاً خاصَّاً بِهِ وأَثَّثَ مَنْزِلاً اسْتَقْدَمَ فيهِ أَبَوَيْه ليَعيشا مَعَهُ بَعْدَ أَنْ أَدُّوا فَريضَةَ الحَجِّ جَميعاً، ثُمَّ تَزَوَّجَ مِنْ فَتاةٍ هولَنْديَّةٍ أَشْهَرَتْ إسْلامَها بَعْدَ اقْتِناعٍ وأَنْجَبا "تَقْوَى" و"صَلاح".

وعِنْدَما أكْمَلَ "نورٌ" عامَهُ السـادِسَ عَشَـرَ في الغُرْبَةِ طَلَبَ مِنْهَ أَبَوَاه أَنْ يَتْرُكاهُ مَعَ أُسْرَتِهِ الصَغيرَةِ ويَعودا "لمِصْرَ" فَقَدْ اسْتَوْحَشا بَلَدَهُما كَثيراً ويُريدا أَنْ يُوَدِّعا الدُنيا في أَحْضانِهِ ويُدْفَنا تَحْتَ ثَراه؛ فَرَفَضَ "نورٌ" رَفْضاً باتَّاً أَوَّلَ الأَمْرِ بِحُجَّةِ أَنَّه مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يَقْضي المَرْءُ أَجازَتَهُ في "مِصْرَ" بَعْضَ الوَقْتِ ولَكِنَّهُ مِنَ المُسْتَحيلِ الحَياةُ فيها باسْتِمْرارِ والرُجوعَ للخَلْفِ مَرَّةً أُخْرَى للعيشَةِ الضَنْكِ وعَدَمِ الاسْتِقْرارِ وسوءِ الأَحْوالِ وَسْطِ تَخَلّفِ البَلَدِ وأَهْلِها؛ إلّا أَنَّهُ قَرَّرَ سَريعاً أَنْ يَعودَ هوَ وأُسْرَتُهُ مَعَ أَبَوَيْهِ عِنْدَما أَمْعَنَ التَفْكيرَ في سُلوكِ وَلَدَيْه؛ فبالرَغْمِ مِنْ حُسْنِ تَرْبيَتِهِما إلّا أَنَّ سُلوكَهُما بَدَأَ يَتَغَيَّرُ نَحْوَ التَحَرُّرِ والإباحِيَّةِ والتَلَفِ بِسَبَبِ مُخالَطَتِهِما لِزُمَلائِهِما الهولَنْديِّين ذَوي الأَفْكارِ والأَخْلاقِ الماجِنَة؛ وتَذَكَّرَ "نورٌ" ما شَاهَدَهُ "بالحَيِ الساخِنِ" فَآثَرَ أَنْ يَعودوا جَميعاً لِوَطَنِهِ "مِصْرَ" ليُحافِظَ عَلَى وَلَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَشِبَّا عَنِ الطَوْقِ ويَتَطَبَّعا بِطِباعٍ فاسِدَةٍ فَيَضيعا مِنْهُ في غُرْبَتِهِ "بهولَنْدا".

وآبَ الجَميعُ بَيْنَ ذِراعَيْ "مِصْرَ" التي احْتَضَنَتْهُم في شَهِرِ "رَمَضانٍ" 1420 هِجْريَّة ليَتَمَتَّعوا بِروحِ ورَوْحانيَّاتِ العِبادَةِ في الشَهْرِ الكَريم وكانوا يُرَدِّدونَ تَكْبيراتِ العيدِ عَقِبَ صَلاةِ العِشاءِ لَيْلَةِ عيدِ "الفِطْرِ" وهُمْ يُزَيِّنونَ الجامِعَ مَعَ جيرانِهِم وأَحْبابِهِم في سَعادَةٍ وفَرَحٍ ابْتِهاجاً بِقُدومِ العيدِ وكانَتْ تَكْبيراتُهُم تَخْتَلِطُ بِتَرانيمِ القُدَّاسِ بالكَنيسَةِ المُجاوِرَةِ للجامِعِ حَيْثُ كانَ إخْوَتُهُم المَسيحِيُّونَ يَحْتِفِلونَ بِعيدِ "القِيامَةِ" المَجيدِ في 7 يَنايِر 2000 ميلاديَّة.

google-playkhamsatmostaqltradent