خبر
أخبار ملهلبة

"أرواح بلا قبور" | الكبد المسكون (1)


رسم تشريحي توضيحي للكبد وموقعه داخل جسم الإنسان

الكبد المسكون (1)

 

 

لم يهتمّ البابليون (سكّان "العراق" ما بيْن نهريْ "دجلة" و"الفرات")  بأي عضو من أعضاء جسم الإنسان مثل اهتمامهم بالكبد، وكانوا يعتبرونه أهم عضوٍ حيويٍ في الجسم ولم يشرّحوا عضواً قط غير الكبد، وكانوا يعتقدون أن آلهتهم تكشف نواياها في الأحشاء وخاصّةً الكبد ؛ فكان الكاهن يقرأ كبد الحيوان الذي ذُبِح قرباناً للإله كما يقرأ الناس الكف هذه الأيّام ويتنبّأون بالشفاء والموت أو الحظ والمستقبل، وكانوا يعتقدون أنّ القلب مركز العقل والذهن في حين أنّ الكبد مركز العواطف والأحاسيس والمشاعر والمعدة مركز الدهاء، ومن البابليّين انتقل ذلك الاعتقاد عن الكبد إلى العرب فلم يفرّق بعض الشعراء العرب بيْن الكبد والقلب، فظنوا أنهما عضوٌ واحدٌ في وسط البطن أو أعلاه، وقد ورد في لسان العرب "لابن منظور" أن كبد كل شيء هو وسطه ومعظمه لذلك انطلقوا من أن خير الأمور أوسطها وهو أفضل وأعزّ ما فيها فيقال "كبد الحقيقة" أو "كبد السماء" أو "كبد الأرض" أو "كبد القوْس"، ولذلك اعتبر البعض الكبد أساس الحياة بل استعمل كرمز للحياة فنسمع من بعض أهل "الخليج" و"العراق" من يخاطِب شخصاً عزيزاً لديه بقوله : "يا بعد كبدي"، أو نسمع من العرب من يصف طفله بفلذة (قطعة) كبده أو نسمع أيّضاً من يصف الأحبّاء بالأكباد.

وربّما تؤكّد هذه القصّة أسطورة ما ذهب إليْه البعض بأنّ الكبد بمثابة الصندوق الأسود للإنسان بل مَن تجاوز منهم حدّ الشطط فوصفه بمسكن الروح ومكمنها، فيحكى أن شابّاً من عائلةٍ كبيرة وثريّة اسمه "قاسم نوري" من حي "بابل" بمدينة "الحِلَّة" "بالعراق" كان قد انضم لفصائل المقاومة العراقيّة لدحض قوّات الغزو الأمريكيّة التي احتلّت "العراق" فنهبت خيْراته وتحكّمت في مصيره، وتخصّص "قاسم" في مجال صُنْع القنابل والعبوات الناسفة فأظهر من آيات البطولة والشجاعة ما جعله هدفاً مطلوباً لقوّات الغزو التي سرعان ما أوقعته في حبائلها بعد أن نصبت له شِرْكاً محكماً بمساعدة بعض الخونة والمأجورين من أبناء "العراق" العققة، وبعد القبض عليْه تم ترحيله إلى سجن "بو غريب" حيث عانى الأمرّيْن من مختلف أنواع التعذيب والإهانة عقاباً له على حبّه لوطنه وخوْفه على أهله، وكان من ضمن الإجراءات المُتَّبَعة في هذا المعتقَل طبع وشمٍ به بيانات كل سجينٍ على صدره لئلّا يستطيع السجين محوه بسهولة فتستحيل علامات الوشم إلى وصمة عار لا تفارقه إلّا بالكي أو الجراحة، ولأنّ العراقيّين - من وجهة النظر الأمريكيّة العنصريّة - كباقي العرب مواطنون من الدرجة الثانية ولا يحق لهم التمتّع بأبسط الحقوق فقد تمّت عمليّات الوشم بآلاتٍ ملوّثة لا يتم تعقيمها من شخصٍ لآخر وباستخدام أصباغٍ سامّة تحتوي على دهانات السيّارات ممّا أدّى إلى إصابة الكثيرين - ومنهم "قاسم" - بمرض الالتهاب الكبدي الوبائي الذي سرعان ما تكاتف مع اضمحلال الحالة المعنويّة وسوء التغذية وشُـحّ العلاج والإهمال المتعمَّد من إدارة المعتقل ليصل إلى مرحلةٍ خطيرة من تليّف الكبد الغير قابل للعلاج، وتمّ الإفراج عن "قاسم" بعد أن تأكّد المجرمون من أنّه مأمون الجانب لا يقوى حتّى على الدفاع عن نفسه.

واستشارت عائلة "قاسم" العديد من الأطباء المختصّين فأجمعوا على خطورة حالته بعد أن نهش المرض الكبد بالكامل وأوْصوا بضرورة سفره "للصين" لإجراء عمليّة زرع كبد عاجلة.

وهناك أُنجِزَت الجراحة بنجاح بعد زرع كبد تم أخذه من أحد الصينيّين الذي تُوُفي في حادث قطارٍ قسمه نصفيْن أثناء مطاردة الشرطة له، وخرج "قاسم" من غرفة العمليّات إلى غرفة الإنعاش والإفاقة حتّى يجتاز مرحلة ما بعد العمليّة بأمان، ومرّ يوْمان و"قاسم" في تحسّنٍ مطّرد ولكنّه ما برح يغفو في غيْبوبةٍ اعتاد عليْها الأطباء في مثل حالته، وفي اليوْم الثالث بدأ يستفيق رويْداً رويْداً فتابعه الأطباء الصينيّون عن كثبٍ ولكنّهم اكتشفوا شيْئاً مريباً فقد كان "قاسم" يهذي أحياناً في نبرةٍ واهنةٍ ضعيفة أثناء إفاقته بكلامٍ غير مفهومٍ لهم فسّره أهله بأنّه باللغة العربيّة في حين كان يتمتم أحياناً أخرى في نبرةٍ قويّةٍ حادةٍ أثناء غييبوبته بكلامٍ تعرّف عليه الصينيّون بأنه باللغة الصينيّة المعروفة رغم تأكيد أهل "قاسم" المرافقين له على أنّه يجهل اللغة الصينيّة تماماً.

ووقف الأطبّاء الصينيّون حائرين حيال هذه الظاهرة التي يلمسونها لأوّل مرّةٍ في حياتهم المهنيّة واستعانوا بالمختصّين الذين عجزوا أيْضاً عن تفسير ما حدث، ووضع الأطباء كاميرات مراقبةٍ في حجرة "قاسم" لملاحظة تصرّفاته على مدار الأربع والعشرين ساعة فوجدوا أن "قاسم" لا يتكلّم الصينيّة إلّا أثناء غيابه تماماً عن الوعي وأن ذلك يصاحبه سرعةٌ في دقّات القلب والنبض وارتفاعٌ طفيف بضغط الدم وتسارعٌ في معدل التنفّس ونشاطٌ ملحوظ في وظائف الكبد المزروع، وشكّ أحد الأطبّاء في وجود علاقةٍ بين ما يحدث وبيْن كـوْن المتبرّع بالكبد صينيّاً فلجأ هذا الطبيب إلى أحد الأخصّائيّين في علم الروحانيّات النورانيّة المشهورين فنصح بعمل جلسة تحضيرٍ للأرواح بعد استقرار حالة "قاسم".

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent