خبر
أخبار ملهلبة

شق الثعبان | أرواح بلا قبور (1)


ورش المنطقة الصناعية لتصنيع الرخام بشق الثعبان بالقاهرة


  شق الثعبان (1)

 

 

بأزميلٍ ومَبْرَدٍ ومنشارٍ ودبّورة (شاكوش) جلس "ناجي" بحرفيّةٍ وصبرٍ وفنٍ وإبداع ينحت ويشكّل حجر الرخام المضيء (الألاباستر) ويحوّله من قطعٍ صخريةٍ مصمتةٍ جامدةٍ خرساء إلى قطعٍ فنيّةٍ بديعةٍ ناطقةٍ على هيْئة تماثيلٍ فرعونيّة ومزهريّات وأدوات زينةٍ وتحفٍ رائعة، وكان "ناجي" - ذلك الصعيدي القادم من قرية "القرنة" القديمة بمدينة "الأقصر" - يعمل وحيداً بالورشة في هذه الليْلة ذات البرد القارِس القارِص حتّى ينتهي من طلبيّةٍ أحد التجّار الكبار التي سيتسلّمها في الغد، وبعد أن أنهى عمله على الوجه الأكمل كان الليْل قد انتصف فاغتسل وبدّل ملابس العمل بأخرى تليق بخارجه وألقى بتحيّته على خفير الورشة وانصرف عائداً إلى بيْته حيث تنتظره زوْجته وبنته ذات الخمسة عشر ربيعاً.

وكان عليه أن يقطع مسافةً كبيرة سيْراً على قدميْه في طريقٍ ترابيّةٍ نائيةٍ منعزلة بين مصانع وورش الرخام المغلقة آنذاك حتّى يصل إلى أوّل طريق "الأوتوستراد" فيستقل إحدى الحافلات الصغيرة (ميكروباس) التي تنقله من منطقة "شق الثعبان" الواقعة جنوب "المعادي" "بالقاهرة" حتّى منطقة "طره البلد" حيث يستقل قطار المترو - خط "حلوان" - فينزل قريباً من منزله، وفي أثناء مشيه على هذه الطريق الترابيّة الوعرة كان يدندن ببعض الأغاني الصعيديّة الجميلة التي تذكّره بأهله البسطاء وطفولته السعيدة، ولكنّه توقّف عن الغناء فجأة عندما سمع صوت سيّارةٍ تأتي من خلفه فتنحّى جانباً وأشار لسائقها عسى أن يقِلّه إلى أول الطريق الأسفلتي فيرحمه من السيْر وحيداً في هذا الليْل البهيم وعلى هذا الدرب المنزوي ؛ إلّا أن السيّارة التي كانت تضئ كشّافاتها المبهرة لم تقف له أو حتّى تهدّئ من سرعتها العالية عنده بل قطعت الطريق الترابي وهي تتأرجح وترتج بقوّةٍ ثمّ اختفت بعيداً مخلِّفةً ورائها سحابةً كبيرة من التراب الذي أثار صدر "ناجي" فأخذ يسعل بشدّة وهو يصب لعناته على مدينة العاصمة الكبيرة التي تباعد أبناؤها عن بعضهم البعض وتعاملوا فيما بينهم بمنتهى الجفاء والغِلظة عكس قريته الصغيرة البسيطة في الصعيد حيث يعامَل الغريب كصاحب الدار فتُكرَم وفادته ويسعى الجميع إلى معاونته وعَرْض مساعداتهم عليْه حتّى قبل أن يطلب.

وانعطف "ناجي" يساراً ليختصر الطريق ولكنه عندما مرّ على أحد الأحواش المغلقة المنعزلة والتي تستخدم كساحة عملٍ ومخزنٍ مسقوف لإحدى الورش لمح نفس السيّارة تقف في الظلام خاليةً من راكبيها وسمع أصوات أنينٍ مكتوم وصراخٍ دفين تصدر من هذا الحوْش فسار ناحيته بخفّة محاولاً ألّا يصدِر صوتاً وأخذ يتلصّص على ما بداخله من خلال ثقبٍ ببابه الحديدي فوجد عُـجاباً ؛ شاهد "ناجي" ثلاثة شبّانٍ يطرحون فتاةً مكمَّمَةً بلاصقٍ في حوالي العشرين من عمرها أرضاً ويتضافرون لشد وثاقها ورَبْطها إلى قواعد إحدى الماكينات التي تستخدم في قطع الرخام وسط محاولاتٍ فاشلة من الفتاة لإنقاذ نفسها من الاعتداء والاغتصاب، وغلى الدم الصعيدي فى شرايين "ناجي" وانتفض فيه عِرق الشهامة والرجولة فلم يشعر بنفسه إلّا وهو يتسلّق على مواسير الصرف الصحّي للورشة ليصير فوْق سقفها الأسمنتي المليء بقطع الخردة والمهملات فانتقى عصاةً خشبيّةً غليظة وتسلّل بهدوء إلى داخل الحوْش عن طريق كـوّة في السقف تستخدم كفتحةٍ للتهوية أو الإضاءة واقترب دون أن يشعر به الشبّان الثلاثة ثمّ وثب ناحية أحدهم وانهال عليه بالعصا الخشبيّة فسقط الشابّ من فوْره مغشيّاً عليْه وهو يتأوّه، وأصابت المفاجأة الشابّ الثاني وكان أسود البشرة قصير القامة ضعيف الجسم فارتبك وأسرع بالفرار فدفع الباب الحديدي بكلتا يديه وقفز في السيّارة فأدار محرّكها وانطلق بها هارباً لا يلوي على شيء، في حين وقف الثالث منتصباً متحدّياً "ناجي" الذي لم يترك له مجالاً للاستعداد فعاجله بضربةٍ من عصاه إلّا أنّ الشابّ الثالث تفاداها بل وجّه "لناجي" لكمةً قويّة على وجهه فأصابته بدوارٍ خفيف، وانتهز الشابّ الثالث الفرصة فاندفع ناحية "ناجي" ودفعه أرضاً فوقع "ناجي" بجانب كومة من غبار الرخام الدقيق فتناول منه حفنةً بيده اليمنى وانتظر هنيْهةً حتّى هجم عليْه الشابّ الثالث وقذفها في وجهه فأصابت عيْنيْه اللتيْن أغلقهما متألّماً وفقد البصر لمدّة ثوانٍ كانت كافيةً "لناجي" حتّى يصل لعصاته وينقضّ بها على رأس الشابّ الثالث بقوّة فشجّها شجّاً عميقاً فهوى الشابّ مضرجاً في دمائه، والتقط "ناجي" أنفاسه وهرع للفتاة التي كانت ترقب هذه المعركة وهي تدعو في سريرتها لمنقذها "ناجي" بالسلامة والنجاة، وانتزع "ناجي" الشريط اللاصق الذي كان يكمِّم الفتاة وفك الحبال التي كانت تقيِّدها فأخذت الفتاة تستر جسدها الذي عرّاه الشبّان قبل أن يغتصبوها فأغلقت أزرار ردائها الأزرق الفيْروزي المميِّز للعاملات فى الحقل الطبّي ونظرت "لناجي" نظرة عرفان وشكر وطفقت تحمد الله على أن أرسل لها من ينقذها في الوقت المناسب قبل أن يصيبها مكروه، ولكن في هذه اللحظة أفاق الشابّ الأوّل المغشي عليْه فهجم علي "ناجي" ودار بيْنهما شجارٌ وعراك ممّا حدا بالفتاة إلى أن تجري خارج الحوْش وهي تصرخ طلباً للمساعدة فركضت ناحية طريق "الأوتوستراد" الرئيسي الذي كان قريباً من الحوْش فرأت عربة نقلٍ كبيرة من على بعدٍ فذهبت ناحيتها ووقفت في طريقها وهي تلوِّح لقائدها بالوقوف لنجدتها ونجدة منقذها لكن السائق لم يستطع الوقوف فجأة خاصةً وقد كانت العربة تنقل حمولةً تزيد على الثلاثة أطنان وحاول السائق مفاداة الفتاة إلّا أنه أخفق في ذلك فصدمها ودهسها تحت عجلات سيّارته الضخمة فتناثرت أشلاؤها على الطريق، ونزل السائق ورجلان كانا معه وهم يلهلهون ويحوْقلون ضاربين كفاً بكف على هذه الحادثة المؤلمة الفظيعة، وبينما هم كذلك لمح أحدهم الشابّ الأول وهو يلوذ بالفرار خارجاً من الحوْش متّجهاً بعيداً عنه فارتاب فيه وشكّ في أمره فجرى وراءه مع زميليّه وأمسكوا به فوجدوه وقد سال الدم من رأسه على ملابسه فتحفّظوا عليْه وفتّشوا الحوْش الذي خرج منه فوجدوا "ناجي" وهو مغمىً عليْه وكذلك عثروا على الشابّ الثالث وقد فارق الحياة فاتّصلوا بالإسعاف وطلبوا الشرطة لعمل اللازِم.

 


(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent