خبر
أخبار ملهلبة

"شيء من الخبث" | الفصل السادس (1)


فتاة ريفية جميلة تقف وراء زجاج النافذة بين الورود والرياحين

"شيء من الخبث" | الفصل السادس (1)

 

 

وفي إحدى الأمسيات وبعد عدّة أيّام خلت كانت "فؤادة" تنتظر في شبّاكها كعادتها وهي متلهّفةٌ لرؤية "موفّق" الذي لم يظهر منذ أن أطلق عليه الخفيران النار، ولم تستطع "فؤادة" من يومها أن تبعد عن بالها التفكير في حبيبها لحظةً واحدة؛ فامتنعت عن الأكل اللّهمَّ سوى لقيماتٍ معدودات يُقِمْن صلبها ويبقينها على قيْد الحياة إلى أن تطمئن عليه؛ كما جافاها النوم وأرّقها السهاد فخاصمت مرقدها اللّهمَّ غير دقائقٍ قليلة كانت تغفو فيها وهي جالسةٌ من شدّة التعب والسهر وحتّى في هذه الدقائق لم يتوقف عقلها عن التفكير في "موفّق" الذي كان يوافيها في منامها وأحلامها كما هو الحال في يقظتها وإدراكها.

وقارب الليل على الانتصاف دون أن تلوح أيُّ بادرةٍ على مجئ "موفّق" رغم الظروف المواتية لحضوره؛ فقد كان الجوْ ربيعيّاً معتدلاً والقمر غائباً والظلام شديداً كما كانت الحديقة خاليةً من الحرّاس بعد أن أمرتهم "فؤادة" بألّا يقتربوا من غرفتها وألّا يتجوّلوا أسفلها بحجّة أن أيَّ صوتٍ أو حركةٍ قريبة تقلقها خاصةً بعد حادثة إطلاق النار، وبعد أن يئِست "فؤادة" من زيارة "موفّق" تملّكها شعورٌ يرقى إلى مرتبة اليقين بأنها لن تراه مرّةً أخرى فلا شيء يمنعه عن زيارته لها سوى الموت لأنه لو كان حيّاً لما غاب عنها طوال هذه الأيّام التي مرّت كالأعوام، فدخلت إلى سريرها وتهاوت عليه وانكفأت على وجهها وانخرطت في بكاءٍ شديد لم يقطعه سوى صوْتٌ خفيض كالفحيح ينادي عليها :

- "فؤادة".

فتوقّفت "فؤادة" عن استرسالها في البكاء ونظرت إلى النافذة المفتوحة على مصراعيها وأصخت السمع جيّداً فلم تسمع شيئاً لبرهة وجيزة فأدركت أن ما سمعته ما هو إلّا صوْتٌ من نسج الخيال أو أحلام اليقظة، ولكنها فوجئت بزهرةٍ بيضاءٍ كبيرة من زهور الصفصاف تُقْذَف من خارج النافذة وتقع على أرضيّة الحجرة؛ فهبّت مندفعة ناحية الزهرة وقلبها يدق بعنف فانحنت والتقطت الزهرة في وجدٍ وهيام ثم ركضت ناحية النافذة فألفت "موفّق" متعلّقاً بفرعٍ من فروع الصفصافة وهو يبتسم في حبٍ وصبابة؛ فغالبت "فؤادة" نفسَها لتقاوم إغماءةً ألحّت عليها من فرط فرحتها وأسرعت بمد يدها "لموفّق" وهي ترتجف فتلقّفتها يد "موفّق" في ترحيبٍ كأنه عناق، ودفع "موفق" نفسه إلى داخل الحجرة ووقفا متقابليْن وهما يشبّكان أيديهما بحرارة وتركا عيونهما التي تلاقت أخيراً تبوح بأسرار عشقهما وتشكو لهيب الشوق لبعضهما، وبعد هنيهةٍ من صمت هو أبلغ من أي كلام نطق "موفّق" بنبرةٍ تفيض مودّةً وغراما :

- إزايّك يا "فؤادة".. وحشتيني قوي.

فردّت "فؤادة" في خجلٍ وقد احمرّت وجنتاها :

- وانت كمان.. كده برضه تغيب المدّة دي كلّها من غير ما تطمّني عليك.

- معلهش غصب عني.. سامحيني.. ح اقول لك على اللي حصل.

- تعالي اقعد الأول واحكي لي على كل حاجة.

ومشي "موفّق" بتثاقل وهو يعرج إلى أن جلس ببطء على أحد المقاعد فانزعجت "فؤادة" للغاية وسألته :

- مالك يا "موفّق"؟.. بتزُك ليه؟

فأجابها "موفّق" وهو يداري ألمه أثناء الجلوس :

- ما تتخضّيش عليَّ.. ربّنا ستر وجات لي رصاصة ف فخدي الشمال.

- يا خبر.. والجرح جامد؟.. ورّيني كده.

- الحمد لله الرصاصة ما عملتش غير جرح سطحي وطلعت على طول.. بس انا ما اقدرش أورّيك الجرح إكمنه ف فخدي من فوق.. وبصراحة أنا كنت باكّسف حتّى م الحكيم اللي كان بيغيّر لي.

- قدّر ولطف.. ألف سلامة عليك.. يا ريتني كنت انا.. مش قلت لك خلّي بالك من نفسك علشان خاطري.

- أنا فدي ضوفرك.. وبعدين ربّنا قبل ما بيبلي بيصبّر وقبل ما يكسر بيجبّر.. والحمد لله على قد كده.. سيبِك مني أنا.. المهم انتي عاملة إيه؟

- يعني ح اعمل إيه يعني.. آديني قاعدة مستنيّة قدري.. الظابط "طهطاوي" اتفق مع أهل البلد إنهم ح يجوّزوني للعمدة الجديد بعد ما يختاروه.. من غير ما يسألوني عن رأيي.. كإني جاموسة بيبيعوا ويشتروا فيها.

- وإنت ح تسكتي على كده؟

- أعمل إيه؟.. نصيبي كده.. طول عمري بأضحّي علشان خاطر أهل البلد ويا ريته بيتمر فيهم.. آديك شايف كل واحد بيشوف مصلحته وسايبيني مرميّة هنا.. ما حدّش منهم سائل فيَّ .

- باقول لك إيه.. هي كلمة ما لهاش تاني.. أنتي لازماً تهربي من هنا.. أنا رتّبت كل حاجة.. أنا ف مسافة كام يوم كده ح اجي أهرّبك من هنا.. وح ناخد حصاني ونطلع من سكّة الجبّانة على دوّار العموديّة القديم.. حاكم الدوّار ده مهجور وما حدّش بيروح هناك إكمّنهم بيقولوا عليه مسكون من ساعة ما اتقتل فيه العمدة اللي قبل "عتريس".. أنا كسرت قفل الباب وكنت متداري فيه الكام يوم اللي فاتوا.. وخزّنت فيه أكل وميّه والذي منه.

- طب ما نهرب برّه البلد على طول.. لازمتها إيه القعدة ف دوّار العموديّة القديم؟.. أحسن يطلع فيه عفاريت بجد.

- ما ينفعش.. الهجّانة محاوطين البلد من كل حتّة وعاملين كردون حراسة أربعة وعشرين ساعة.. إحنا ح نفضل قاعدين ف دوّار العموديّة القديم كام يوم كده لحد ما الأمور تهدا وتنام وبعد كده نكُت برّه البلد.. وبعدين ما تخافيش يا ستّي ما عفريت إلّا بني آدم.

- طب ما تيجي نهرب الليلة دي.

- لأ لأ.. إحنا ح نستني ليلة تبقى فيها مظاهرات ف الساحة القدّامانيّة.. ساعتها العساكر والغفر بيغوروا من وش أهل البلد.. ما تفهميش بيخفوا فين.. وده هوَّ أحسن وقت نهرب فيه وسط الزحمة من غير ما حد ياخد باله مننا.. بس احنا ح نلبس لِبْس اتنين منقّبات علشان ما حدّش يشوفنا.

- ماشي.. ربّنا يسترها معانا.

- أسيبك بقى ده الوقت علشان ألحق أروح الدوّار القديم قبل ما الصبح يشقشق وحد يشوفني.

وانصرف "موفّق" على أمل اللقاء مجدداً مع "فؤادة" والهروب سوياً ليبدآ حياةً جديدة سعيدة تنسي فيها "فؤادة" أحزانها وآلامها وإحباطاتها مع "عتريس" الذي عاشت معه قصة حب واعدة أوّل الأمر ما لبثت أن باءت بالفشل بعد ذلك.

ومضت الأيام بقرية "الدهاشنة" سريعاً دون أن يخلو يومٌ واحد من أحداثٍ متلاحقة ومشاكلٍ عويصة وفتنٍ مشتعلة.

ففي أحد الأيّام استيقظ الناس على خبر مقتل خمسةٍ من جنود الهجّانة على أطراف القرية المتاخمة لأرض عائلة "الكهاينة" أثناء نوبة حراستهم مما استفز أهل البلد وتوجّهوا للبيت الذي تمتلكه عائلة "الكهاينة" والذي كانت تحتفظ به في "الدهاشنة" لإجراء المقابلات فيه بين أفرادها وبين "عتريس"، وأصرّ الناس على هدم البيت وإحراقه وطرد من فيه من حرّاس وخدم ولكنهم لم يستطيعوا ذلك حيث تصدّت لهم قوات الهجّانة وأوسعتهم ركلاً وضرباً وألقت القبض على بعضهم وقتلت البعض الآخر فاكتفي أهل البلد بما فعله أحد شبابهم الذي تسلّق البيت واستطاع إنزال قميصٍ خاصٍ "بالكهاينة" كان مغسولاً ومنشوراً على السطح فاعتبره الناس بطلاً وكرمّوه أيّما تكريم واعتبروا - أثناء دهسهم وحرقهم للقميص - أن هذا العمل فرض كفاية يغنيهم عن مواصلة الجهاد وعادوا إلى منازلهم مظفّرين مرتاحي الضمير رغم أن انتفاضتهم للأخذ بثأر الشهداء لم تكتمل وكأنهم أدمنوا ابتداء كل عملٍ لهم برؤوسٍ ساخنة واستسهال عدم إكماله وإنهائه بعزيمةٍ باردة، في حين التزم ضبّاط الهجّانة الصمت وكأن على رؤوسهم الطير فلم يحرّكوا ساكناً تجاه عائلة "الكهاينة" خوفاً منهم وطمعاً في نيْل رضا المأمور "أسامة" حليفهم الدائم، ولم يستجيبوا لأهل البلد الذين طالبوهم بالرد على "الكهاينة" أو حتّى قطع ما بينهم من صلة بل على العكس أكّد الضبّاط "للكهاينة" أنهم باقون على العهد الذي اتفقوا عليه سويّاً من قبل سواء مع "عتريس" أو مع العمدة الذي سبقه، واكتفوا بأن فرداً من عائلة "الكهاينة" اتّصل "بطهطاوي" وقال له ثلاث كلمات " لا مؤاخذة.. ما كانش قصدنا " وانتهي الأمر، وهكذا لحقت دماء الجنود الزكيّة بالدماء الطاهرة لشهداء الثورة وكلهم للوطن ضحيّة.

وفي يوْمٍ آخر؛ بل قُلْ في أيّامٍ أُخَرٍ متكرّرة تعدّدت حوادث كسر وإشعال النار غير ذات مرّة في ماسورة الجاز التي توصّل جزءاً من حصّة الجاز الخاصّة "بالدهاشنة" إلى عائلة "الكهاينة" بناءً على اتفاقٍ بينهم وبين "عتريس" بمباركة المأمور "أسامة"، ولم يستطع أو بالأحرى لم يرِد ضبّاط الهجّانة معرفة الفاعل كل مرّة.

وفي ذات يومٍ آخر طفت إلى السطح مشكلةٌ أخرى بعد تسمّم العشرات من أهل البلد المعتصمين في الساحة الأماميّة بعد أن دسّ لهم مجهولون أكلاً مسموماً مما استدعي نقل بعضهم للوحدة الصحيّة ومواراة بعضهم الآخر الثرى تحت ستارٍ من الصمت والتجاهل، وقد أدّى ذلك إلى اشتعال المظاهرات التي كانت تتجدّد في كل مرّةٍ يتم فيها الكشف عن جرائمٍ جديدة بحق المعتصمين كعلاج المصابين في الساحة بأدوية مُضرّة أو حقنهم بحقن الهواء لقتلهم عمداً أو اختطاف بعضهم وتعذيبهم في أماكنٍ قريبة من الساحة أو بتقييدهم في الأسرّة بالوحدة الصحيّة لحين تماثلهم للشفاء ثم ترحيلهم لأماكن غير معلومة.

وكانت واحدةٌ فقط من هذه المشاكل كفيلةً بأن تحيل حياة أيّ بلدٍ إلى جحيمٍ مستعر، إلّا أن المشكلة الأعظم والأكثر خطورة والتي أرّقت الناس وقضّت مضاجعهم هي الصراع الطائفي بيْن عائلة "الهلايلة" المسلمين وعائلة "الصلايبة" المسيحيين، وكان هذا الصراع يطفو على السطح من وقتٍ لآخر إمّا بفعل فاعل يطلق الشائعات ويحرّك الأحداث ويستفيد منها وإما بفعل الجهل والتعصّب اللذيْن يسيطران على عقليّة بعض أفراد العائلتيْن مما يتيح الفرصة لأصحاب الأغراض الخبيثة لكي يستدرجوهم ويستغلّوا ذلك في تحقيق مآربهم الشريرة.

فأحياناً يكون هذا الصراع الطائفي خامداً تحت الرماد وأحياناً أخرى تتأجج جذوته محدثةً لهيباً مدمراً، وتارةً يظهر على هيئة مناوشاتٍ بسيطة يتم تجاوزها وتارةً أخرى يظهر جليّاً واضحاً لا سبيل لمفاداته.

وفي كل مرّة يكون الرابح من هذا الصراع أو هذه الفتنة هو الحاكم الظالم "عتريس" وخلفاؤه غير الراشدين الذين يسعون لإزكاء نار الوقيعة بيْن العائلتيْن إمّا بإثارة الشائعات والمشاكل والنعرات الطائفيّة وإن لزم فبدفع بعض المأجورين لحرق الكنيسة أو لتحطيم المسجد، وإمّا بسكوتهم وسلبيتّهم وتركهم للمشاكل المستجَدَّة بيْن الطرفيْن حتّى تنمو شيئاً فشيئاً وتصير عملاقة تعصى على الحل.

ولا يخفي على ذهن أي نابهٍ أو حتّى غافل أن بعض الجهلاء من العائلتين يساعد بقصدٍ أو بدون على زرع هذه الفتن وإنمائها كهذا المسلم المتعصّب الذي يطالب المسيحيين بدفع الجزية وهم صاغرون أو كمسلمٍ آخر يفتي بحرمانية انخراطهم بين صفوف الهجّانة والدفاع عن البلد وبعدم تعيينهم في وظائف قياديّة وبمعاملتهم بالشدّة والتجهّم في وجوههم وبعدم إلقاء السلام عليهم وتحريم تهنئتهم بأعيادهم أو حتّى مواساتهم في أحزانهم، وكهذا المسيحي المتعصّب الذي يدعو إلي تحرير حقوق بني دينه بالقوة حتّى ولو اضطُروا لقتل المسلمين أو كمسيحي آخر يستفز مشاعر المسلمين بأقوالٍ أو أفعال تجعل الدماء تغلي في عروقهم كذلك المدعو"ساميرس" (أحد أعيان عائلة "الصلايبة" الأغنياء ويمتلك كشكاً للخردوات وبه تليفون يستخدمه أهل القرية بكثرة في اتصالاتهم مما أدر عليه ثروةً لا بأس بها) الذي رسم على كشكه فأريْن أحدهما ملتحي والآخر على شكل منقّبة مما أثار حفيظة عائلة "الهلايلة" الذين يرون أن اللحية والنقاب من رموز الإسلام التي يجب على الجميع احترامها وعدم السخرية منها؛ فقاطعوه وامتنعوا عن استخدام تليفونه إلى أن اعتذر قسراً خوفاً من أن يوشك على الإفلاس بسبب فعلٍ أحمق لم يكن له داع.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent