خبر
أخبار ملهلبة

صورة واحد بيروقراطي | صور مقلوبة | أحمد رجب

 

كاريكاتير بريشة مصطفى حسين عن واحد بيروقراطي ضمن القصص القصيرة الساخرة صور مقلوبة لأحمد رجب

صورة واحد بيروقراطي

 

 

السبت:

جاءني اليوْم "سيّد أفندي الحنبوللي" الموظّف بقسم المشتريات وقال أن السيّد المدير العام سيقيم مأدبة غداءٍ باسم المصـلحة تكريماً للسيّد "فان هاوزن" بمناسبة سفره .. قال "الحنبوللي" أفندی أن السيّد المدير العــام يطلب اتخـاذ الإجراءات اللازمة لصرف اعتمادات المأدبة .. كما يرجو أن تحتوي قائمة الطعام على مأكولاتٍ شرقيّة مثل الكَباب والكُفتة والملوخيـّة وما إلى ذلك .. كلّفت "الحنبوللي" أفندی بإعداد مشروع الإعلان عن المناقصة لإقامة المأدبة.

الأحــد:

أحضر "سيّد أفنـدي الحنبوللي" مشروع المناقصة الذي نُشِر إعلاناً في الصُحُف جاء فيه:

تُعلن مصلحة المواسير الشفّاطة عن مناقصةٍ لتوريد الآتي:

۲ کیلو ملوخية – ٢ رطل باذنجان غير مبروم – ۲ کیلو کباب وكفتة – كوارع بتلّو – ٢ لتر شوربة – ۲ جوز حمام زغاليل – ۲ فرخة في حالةٍ جيّدة ويُفضَّل الفيّومي – واحد كيلو فريك – ۲۰ رغيف بلدي من غير دوبار أو مسامير في عجينتها.

يُقدَّم العطاء باسم السيّد المدير العام في موْعدٍ أقصاه الساعة العاشرة من صباح الغد مقابل دفع خمسين جنيهاً .. وللسيّد المدير العام حق قبول أو رفض أي فراخ أو أی کَباب أو كوارع أو أی شيء ممّا تقدَّم ذِكره دون إبداء الأسباب.

أجريْتُ بعض التعديلات والإضافات في الإعـلان ورفعته إلى السيّد المدير العام فاستدعاني سیادته ورجاني أن أتغاضى عن مسألة إقامة المأدبة بالمناقصة .. غيْر أنني تمسّکتُ برأیي حِرصاً على أموال الدولة وتطبيقـاً للفرمانات الشـاهانيّة والأوامر الهمايونيّة الخاصّة بالمناقصات والدكريتو العالي المفسِّر لها وقرارات لجنة "أمامبا يلدي" الماليّة المنعقدة في "الأسِـتانة" سنة ۱۸۲۰ ميلاديّة برئاسة "كوتشيك باشا الأرناؤوطي" .. سكتَ سيادة المدير في حيرةٍ ثم عاد يرجوني من جديد وهو يصفني بأنني حلّال العُقد .. أعجبتني هذه التحيّة فاقترحتُ عليه عمل ممارسةٍ بدلاً من المناقصة .. فقال لي في توسُّل أن موْعد المأدبة غداً ولا وقت لممارسةٍ أو مناقصة .. ووعدتُه بالبحث عن حل.

نزلتُ إلى مخزن المحفوظات في سرداب المصلحة لأبحث عن قرارات لجنة "زنطار باشا أغا" المعدِّلة لقرارات "أمامبا يلدي" فتبيّن لي بعد طول البحث أن لائحة "كوتشك" باشا قد أكلتها الفئران فاعتبرتها ملغاةً بأكل الفئران لها .. وبناءً عليه يمكن إقامة المأدبة بلا مناقصةٍ أو ممارسة.

الإثنيْن:

جاءني "الحنبوللي" أفندي يلطم .. قال لي أن الكبابجي تأخّر في توْريد الكَباب والكُفتة وأنه اتّصل به أکثر من مرّة خلال المأدبة ثم اضطر للذهاب إليه بنفسه وعاد بالكَباب والكُفتة ليجد أن المأدبة قد انفضَّت وانصرف السيّد المدير والسيّد "فان هاوزن" .. وسألني "الحنبوللي":

-       اعمل إيه في الكباب ده دلوقت؟

تجرّأ أحد الموظّفين المجانين واقترح أن نتغذّى بالكباب .. نهرتُه بشدة وأفهمته أنني حريصٌ على أموال الدوْلة ولا يصح أن يتكلّم أمامي هذا الكلام الفارغ .. وقمت بعد ذلك بعمليّة جردٍ دقيقةٍ لعدد أصابع الكُفتة وطول كلٍ منها بالسنتي والمللي .. وأحصيْتُ عدد قطع لحم الكَباب ووزن كلٍ منها بالدِرهم والجرام .. كما وزنت سلاطة الطحينة .. ولم يفُتني تدوين عدد قطع ورق البقدونس المفروشة تحت الكّباب .. وسجّلتُ هذا كُلّه في محضرٍ رسمي.

الثلاثاء:

قامت لجنة المشتريات بمعاينة الكَباب والكُفتة وسجّلتْ في محضرها أن الكباب في حالةٍ جيّدةٍ وصالحٌ للاستعمال .. وأرسـلت محضر اللجنة مع مذكّرةٍ منّي إلى السيّد المدير العام للإدارة الماليّة .. ثم تلقيْتُ هذه المذكّرة من الإدارة الماليّة:

سرّي وعاجل:

بناءً على ما أفتتْ به لجنة الشئون القانونيّة نخطركم بأن الكَباب والكُفتة وملحقاتهما من طحينةٍ ومقدونس قد أصبح من الأموال العامّة التي لا يجوز التصرُّف فيها بالبيْع أو الشراء أو الرهن أو الأكل، كمـا نخطركم بإبلاغ السيّد/ "سيّد الحنبوللي" أن الكَباب وملحقاته قد أصبح عهدةً حكوميّةً في ذِمّته وأن أكله لهذا الكَباب يٌعد تبديداً لمالٍ عام يُعاقَب عليه جنائيّاً.

توقيع مدير الإدارة الماليّة : "حنفي أبو ضب".

الأربعاء:

بعد إبلاغه بمذكّرة الإدارة الماليّة دخل "سيّد الحنبوللي" مكتبي يسألني:

-       إذا خسر الكَباب ده اعمل فيـه إيه؟

أفهمتُ "الحنبوللي" أنه يعتبر مسئولاً عن ذلك من الناحية القانونيّة لأن محضر لجنة المشتريات يؤكّد أن الكَباب في حالةٍ جيّدة وصالح للاستعمال ولا اعتبار عندنا لغيْر ما سُجّل في المحضر .. أي أن عليه أن يحافظ على نفس حالة الكَباب إلى أن يُسلِّمه كعُهدة ويُخلي طرفه منها .. ونصحته أن يحفظ الكَباب وملحقاته في الثلّاجة حتّى لا يحمض ويتم اتهامه بإتلاف العُهدة .. رقع "الحنبوللي" بالصوت الحيّاني ثم لطم على خدوده ثم حمل عُهدة الكباب وخرج بعد أن قرّر أن يحتفظ بالكَباب في ثلّاجة جاره لأن "الحنبوللي" نفسه لا يمتلك ثلّاجة.

الخميس:

استدعاني السيّد الوكيل العام وقال لي أن السيّد المدير العـام قد حوّل إليه شكوى مرفوعة من "سيّد الحنبوللي" يطلب فيها النظر في مشكلته مع عُهدة الكَباب التي ستذهب به إلى محكمة الجنايات .. فقلت للسيّد الوكيل العام:

-       متأسِّف .. ما فيش حل.

فأخرج الوكيل العام من جيبه ثمن الكَبـاب ومشتملاته حتّى ينتهي الإشكال فقلتُ له بهدوء:

-       متأسف يا سيادة الوكيل.

-       ليه؟

-       لجنة الشئون القانونيّة اعتبرت هذا الكَبـاب من الأموال العامّة فلا يمكن أن نبيع هذا الكَباب .. ذلك أن الأموال العامّة لا يجوز التصرُّف فيها بالبيْع أو الشراء إلّا بالطُرُق التي نَصَّ عليها القـانون.

-       وما هي هذه الطُرُق؟

-       نعمل مزايدة لبيع الكباب.

-       خلاص .. نعمل مزايدة.

الســبت:

أعلنّا عن مزايدةٍ في الصُحُف لبيْع الكَباب .. تكلفت الاعلانات ثلاثة آلاف جنيه .. ولكن لم يتقدَّم أحدٌ لشراء الكباب طوال هذا الأسبوع.

الســبت:

جاءني "الحنبوللي" أفندي يبكي فقد طالبه الجيران بأن يأخـذ الكَباب من ثلّاجتهم .. وعدتُه بايجاد حل في غضون يوميْن.

الثلاثاء:

حلاً للمشكلة رفعتُ هذه المذكّرة للسيّد الوكيل العام:

حرصاً على أموال الدوْلة وحتّى لا نُهدر من الأموال العامّة  ..۳ جنيهٍ هي ثمن الكَباب وملحقاته من طحينةٍ ومقدونس؛ وحتّى لا يتعرّض السيّد/ "سیّد الحنبوللي" للعقاب بتهمة التبديد عند تعفُّن الكَباب؛ أقترح على سيادتكم شراء ثلّاجة "إيديال" بمبلغ ..٥۳ جنيه لحِفظ هذه العُهدة إلى حين إقامة مأدبةٍ أخرى يُقدَّم فيهـا هذا الكَباب.

الأحد:

عادتْ إلىَّ المذكّرة وعليها هذه التأشيرة: "لا مانع .. وتُكَلَّف إدارة المشتريات بشراء الثلاجة على وجه السرعة .. إمضاء: "أبو المُر الحنظلاوي".

السبت:

بعد أن تم شراء الثلّاجة رفعتُ مذكّرةً إلى السيّد الوكيل العام لتخصيص غرفة قلم القيودات لتوضع بها الثلّاجة على أن ينتقل قلم القيـودات إلى البدروم ، وحرصاً على أموال الدوْلة اقترحت أن يتفرّغ "الحنبوللي" أفندي لمراقبة الثلّاجة بعد نقله من قسم المشتريات.

الخميس:

جاءني "الحنبوللي" أفندى يشد شعره .. قال أن التيار الكهربائي انقطع أمس لمدة ساعة كاد أن يفقد خلالها عقله خوْفاً من تعفُّن عُهدة الكَباب .. واقترح "الحنبوللي" فتح اعتماد بشراء لوح ثلج يوميّاً على سبيل الاحتياط حتّى لا يفسد الكباب في حالة انقطاع التيّار .. وجهة نظر سليمة .. فرفعت مذكّرة بفتح اعتمـاد لشراء الثلج يوميّاً وتمّتْ الموافقة عليها بعد الاستماع لوجهة نظري.

الخميس:

تلقيْتُ مذكّرةً من "الحنبوللي" أفندي يشكو فيها من كثرة العمل ومراقبة الثلّاجة صباحاً ومساءً خوْفاً من انقطاع التيّار .. وطلب تعيين اثنيْن من الموظّفين لمساعدته في العمل على ورديات صباحيّة ومسائيّة وطول الليل .. اقتراحٌ وجيه ما دام دافعه الحرص على أموال الدوْلة العامّة .. وبناء عليه كتبتُ مذكّرة للسيد الوكيل العام بفتح اعتماد لتعيين موظّفيْن جـديديْن.

الأربعاء:

تقدَّم "سيّد أفندي الحنبوللي" بمذكّرة يطالب فيها بتعيينه رئيساً على الموظفيْن اللذيْن تم تعيينهما ليعملا معه نظراً لأقدميّته عنهم .. فتم المطلوب,

الأربعاء:

رأیْتُ "سیّد أفندي الحنبوللي: في منتهى السعادة والبهجـة وهو يُبرِز بمناسبة وبدون مناسبة الكروت الجديدة التي طبعهـا وقد كتب عليها:

"سيّد الحنبوللي"

رئيس قلم الكَباب المثلّج

بمصلحة المواسير الشفّاطة.

بعد 15 سنة:

باسم الله ما شاء الله .. هذه آثارنا تدل علينا بعد العمر الطويل .. لقد زرتُ اليوْم المصلحة بعد سنين من إحالتي إلى المعاش ورأيْتُ ما صنعته يداي ينمو ويترعرع .. لقد تحوّل قلم الكَبـاب المُثلّج إلى إدارة كبيرة اسمها الإدارة العامة لتبريد الكَباب .. وأصبح مديرها "الحنبوللي" في درجة مدير عام .. وما زالت عُهدة الكَباب محفوظة حتّى الآن.

google-playkhamsatmostaqltradent